طوفان الأقصى- المقاومة الفلسطينية، كسر الأسطورة ومستقبل الشرق الأوسط

المؤلف: د. عُمر عبد الله08.20.2025
طوفان الأقصى- المقاومة الفلسطينية، كسر الأسطورة ومستقبل الشرق الأوسط

تعتبر المقاومة الباسلة في غزة، وفي ربوع فلسطين قاطبة، ظاهرة طبيعية انبثقت من رحم الاحتلال الغاشم، الذي استهل وجوده المشؤوم في فلسطين مع بزوغ فجر القرن العشرين، متخذا أشكالا متباينة، ومتجسدا عبر أسماء وتنظيمات وانتفاضات شعبية حافلة.

وعقب فاجعة النكبتين المؤلمتين اللتين حلت بفلسطين عامي (1948 و 1967)، لم تخمد جذوة المقاومة، بل اتخذت أنماطا أكثر تنظيما وإتقانا، تجسدت في العمل الفدائي الفلسطيني الذي استهدف دحر الاحتلال.

واستمر النضال الفلسطيني العظيم دون انقطاع لسنوات مديدة، وإن تباينت أساليبه بين حقبة وأخرى، حتى اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، والتي استمرت قرابة سبعة أعوام، وتزامنت مع موجة من العمليات الاستشهادية التي علق عليها رئيس وزراء دولة الاحتلال آنذاك، إسحاق رابين، قائلا: "لا أستطيع أن أوقف شخصا يريد أن يموت".. وقد ترسخت هذه الانتفاضة/الثورة في الذاكرة العربية والعالمية، وأضحت كابوسا يقض مضاجع الاحتلال.. فكان لزاما احتواؤها.

وهكذا، بينما كان الوفد الفلسطيني يجري مفاوضات مضنية في مدريد، سعيا لتحقيق أفضل مكاسب للانتفاضة، كانت أروقة النرويج وغرفها السرية مسرحا لمفاوضات خفية بين منظمة التحرير والاحتلال، لتسفر في سبتمبر/أيلول 1993 عما يعرف بـ "إعلان المبادئ لاتفاقيات أوسلو"، والذي تخلت فيه المنظمة عن خيار الكفاح المسلح، وقبلت الاعتراف بشرعية الاحتلال، وتعديل ميثاقها، تحت ذرائع المرحلية والتكتيك وسياسة "خذ وطالب".. وهكذا.

يكمن الخطر الأكبر في اتفاقيات أوسلو في حقيقة أن صاحب الحق، أي الفلسطيني، يمنح المحتل ما لا يستحقه، ويعترف بشرعيته على أرض فلسطين.

ومن بين البنود التي تضمنتها هذه الاتفاقيات، الاتفاق على إجراء انتخابات فلسطينية عام 1996، يتم من خلالها اختيار رئيس للسلطة الفلسطينية، وأعضاء للمجلس التشريعي.

في تلك الانتخابات، اتفقت الرؤى السياسية لحركتي حماس والجهاد على مقاطعتها، باعتبارها من مخرجات أوسلو.. ونتيجة لذلك، لم تشارك أي من الحركتين فيها. وقد تم انتخاب الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، رحمه الله، رئيسا للسلطة الفلسطينية.

وبعد مرور عقد من الزمان، شهد تقلبات بين فصائل المقاومة، وخاصة الإسلامية منها، والسلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، تم الدعوة إلى انتخابات جديدة في مناطق السلطة الفلسطينية.. وكان عام 2006 هو موعد الانتخابات الثانية للسلطة الفلسطينية.

وشاركت حركة حماس في هذه الانتخابات، في مسعى منها للجمع بين المقاومة والحكم، في حال تحقيق الفوز، على غرار نموذج حزب الله في لبنان.

وجاءت نتائج الانتخابات مفاجئة للجميع، حيث حصدت حركة حماس أغلبية المقاعد في المجلس التشريعي، مما أهلها لتشكيل الحكومة.. وهو الأمر الذي لم يرق لصناع أوسلو.

وعلى إثر ذلك، تم انتهاج سياسة العرقلة تجاه حركة حماس، الفائزة عبر صناديق الاقتراع.. وبدأت الشروط تنهال عليها من الغرب والعرب، وعلى رأسها الاعتراف بـ "دولة إسرائيل" كشرط للمشاركة في العملية السياسية.

إلا أن حماس لم ترضخ لهذه الضغوط، واستمرت مضايقات أجهزة أمن السلطة بحق حركتي حماس والجهاد حتى بلغت حدا لا يطاق، من اعتقالات وتعذيب، وملاحقة ومحاكم أمن دولة، وسنوات سجن طويلة قد تصل إلى المؤبد.

وهنا حانت لحظة التغيير، عندما رفضت حركة حماس قرارات السلطة، وخاصة الأمنية منها. واندلعت اشتباكات مسلحة في قطاع غزة بين أجهزة أمن السلطة والحركة عام 2007، أسفرت عن سيطرة حماس الكاملة على قطاع غزة، ليتبع ذلك فرض حصار خانق على القطاع.

البداية والتجهيز للطوفان

تعتبر حماس حركة مقاومة ذات طابع عقائدي راسخ، تمنح حيّزاً للاجتهاد السياسي وفقا للشريعة الإسلامية ومتغيرات الواقع. وهي حركة تتميز بهيكلية تنظيمية متينة وقوية، تعود جذورها إلى ما قبل التأسيس، من خلال خبرتها الواسعة في العمل المؤسساتي المجتمعي في غزة، تحت مسميات مختلفة.

وبعد أن استهلت الحركة مرحلة الحكم في غزة، تجلى بوضوح امتلاكها لمشروع مقاومة واضح المعالم، تجسدت قوته لاحقا في طوفان الأقصى.. فمنذ اللحظات الأولى، وفي ظل غياب ملاحقة أجهزة أمن السلطة في غزة، انطلقت حماس في العمل على مشروع المقاومة بطرق عملية ومنهجية، تمثلت في النقاط التالية:

  1. العمل الدؤوب على بناء الإنسان "الجندي والقائد"، بناء عقائديا وروحيا وعسكريا، ليكون قادرا على مجابهة جنود الاحتلال في أي مواجهة قادمة.
  2. حفر وإنشاء شبكة الأنفاق المعقدة، التي تجاوز طولها مئات الكيلومترات، والتي أثبتت فعاليتها في جميع الحروب التي تعرضت لها غزة.. وآخرها طوفان الأقصى.
  3. منح فصائل المقاومة الأخرى فرصة للعمل بحرية أكبر، وتوفير أراض مخصصة للتدريبات العسكرية لأفراد تلك الفصائل، وخاصة حركة الجهاد الإسلامي.
  4. العمل الجاد على توفير أدوات القتال المتنوعة، من عتاد وقوة.. تجسد ذلك في الصواريخ، والعبوات الناسفة، والقذائف، والطائرات المسيرة.
  5. ملاحقة دؤوبة لشبكات عملاء الاحتلال في قطاع غزة، مما أدى إلى تضييق الخناق على أجهزة مخابرات الاحتلال، وذلك من خلال الأمن الهجومي، بدلا من الأمن الدفاعي.

وما إن شرعت حركة حماس في العمل وفق هذا النمط الجديد، حتى ازداد الحصار، واشتد الخناق، لتبدأ رحلة السعي لاستئصالها، هي وجميع فصائل المقاومة في غزة.. وتجسد ذلك في سلسلة الحروب المتتالية التي شنت على غزة أعوام (2008، 2012، 2014) لتحقيق هذا الهدف.

السلطة والمقاومة مشروعان متناقضان

بإمكان أي متابع موضوعي للشأن الفلسطيني، أن يلمس الفرق الشاسع بين مشروع السلطة الفلسطينية في رام الله، ومشروع المقاومة في فلسطين عموما، وغزة على وجه الخصوص. ويعود هذا التباين إلى سببين رئيسيين:

  1. الخلفية السياسية والفكرية المغايرة لكلا المشروعين.
  2. القيود والالتزامات التي فرضها الفلسطيني على نفسه من خلال اتفاقيات أوسلو.

فالمشروع الأول، يقوم على التعايش السلمي مع دولة الاحتلال، والإقرار بوجودها الدائم في فلسطين. بينما يرتكز المشروع الثاني، على مقاومة الاحتلال بكل الوسائل المتاحة، وتحرير فلسطين كاملة، واقتلاع الاحتلال من جذوره.

وهنا يثور التساؤل: ما هي العلاقة بين طوفان الأقصى والمشروع الوطني الفلسطيني والشرق الأوسط الجديد؟

قبل الإجابة على هذا السؤال، لا بد من التأكيد على أن الطوفان قد كسر وإلى الأبد صورة هذا الاحتلال/الأسطورة الزائفة.

فعلى مدى عقود طويلة، جرى العمل على تزييف الحقائق وتضليل العقول في العالم، وخاصة في العالمين العربي والإسلامي، بهدف ترسيخ الاعتقاد بأن هذا الاحتلال قوة لا تقهر، وأسطورة لا يمكن هزيمتها أو المساس بهيبتها، ولكن طوفان الأقصى جاء ليحطم هذه الأسطورة الواهية.

وهذا يعني، أن هزيمة دولة الاحتلال أمر ممكن، ولم يعد ضربا من الخيال.

فإذا كانت غزة وحدها، بمقاومتها الباسلة وحاضنتها الشعبية العظيمة، قد تمكنت من تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، فكيف سيكون الحال لو كان هناك مشروع وطني جامع يضم كافة أطياف الشعب الفلسطيني، وبمساندة حركات التحرر العربية والإسلامية التي تؤمن بتحرير فلسطين؟

وهذا يقودنا إلى السؤال المحوري عن علاقة طوفان الأقصى بمشروع الشرق الأوسط الجديد.

طوفان الأقصى محطة فارقة في الصراع

قبيل انطلاق طوفان الأقصى بفترة وجيزة، اعتلى رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو منصة الأمم المتحدة، حاملا خريطة لما أسماه "الشرق الأوسط الجديد". وهو الذي اعتاد التبشير بتغيير ملامح المنطقة، وصولا إلى شرق أوسط جديد خال من حركات المقاومة، تهيمن عليه دولة الاحتلال من حيث المساحة والقدرة والنفوذ.

لكن المفاجأة المذهلة، كانت ما كشفت عنه كتائب القسام، من امتلاكها معلومات استخباراتية دقيقة حول نية الاحتلال شن هجوم واسع النطاق على المقاومة في غزة، ومن ثم التوسع إقليميا لاستهداف كل من يؤمن بالمقاومة في مواجهة أطماع دولة الاحتلال التوسعية.

وامام هذا الخطر الوجودي، بادرت الحركة بإطلاق عملية طوفان الأقصى في فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كرد فعل استباقي على تلك الخطط العدوانية التي أعدها الاحتلال، ولسحق أحلام نتنياهو بخريطة جديدة للشرق الأوسط.

ويمكن الجزم بأن طوفان الأقصى قد نجح، حتى هذه اللحظة، في تأخير تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد وعرقلة تقدمه، على الرغم من كل ما ارتكبه الاحتلال من جرائم بحق حركات المقاومة.

البناء على الطوفان

على الرغم من التضحيات الجسام التي قدمها الشعب الفلسطيني، إلا أنه من الضروري استثمار هذا الطوفان والبناء عليه بكل قوة، ويمكن تحقيق ذلك من خلال:

أولا: في داخل فلسطين:

إعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني التحرري، مع ضرورة العمل على توسيع نطاقه ليشمل جميع ألوان الطيف السياسي المقاوم في فلسطين، الذي يؤمن بضرورة النضال من أجل تحرير فلسطين.

كما يجب تجاوز كافة العراقيل التي قد يضعها البعض أمام تحقيق هذا الهدف النبيل، ومن ذلك الادعاء بأن إعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني هو خطوة تهدف إلى استبدال منظمة التحرير الفلسطينية.. وهو ادعاء باطل، بل إن من صميم هذا المشروع إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية نفسها، لتكون بمثابة البيت الجامع لكل الفلسطينيين تحت راية مقاومة الاحتلال.

ثانيا: خارج فلسطين

في حال التوصل إلى توافق على مشروع وطني فلسطيني موحد، ويفضل أن يكون تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، فإن العمل في الخارج يصبح خطوة مكملة وداعمة لهذا المشروع، وذلك من خلال التعاون الوثيق مع جميع حركات التحرر التي تؤمن بضرورة تحرير فلسطين، وكذلك مع الأنظمة الداعمة لهذا الهدف.

وينبغي أن يتم هذا التعاون ضمن إطار وطني موحد تشرف عليه مؤسسة جامعة تمثل الكل الفلسطيني، لأن وجود مثل هذا الإطار يسهل التنسيق مع تلك الأنظمة، ويعزز من قوة المشروع، ويراكم الإنجازات.

وعلى عاتق هذا المشروع الجامع تقع المهام الأصعب، وفي مقدمتها طلب الدعم بكافة أشكاله من الأنظمة الملتزمة بقضية فلسطين، وذلك وفق قاعدة العمل المشترك التي يجسدها شعار: "فلسطين تجمعنا".

محددات نجاح مشروع الشرق الأوسط الجديد

ينبغي أن ندرك تماما أنه حتى يتم تحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد، فإن هناك محددات أساسية لا بد من توفرها، وهي:

  1. توافر الرغبة الصادقة لدى أصحاب المشروع ووجود الإرادة الصلبة لتحقيق تلك الرغبة.
  2. وجود أنظمة موالية تساعد على ذلك. غياب حركات المقاومة من المشهد أو إضعافها.
  3. تغييب الجماهير وإقصاؤها عن دورها الفاعل في التصدي للمشروع.

ويمكن القول بثقة إن طوفان الأقصى أسهم بشكل كبير في تثبيت حضور المقاومة الفاعل في الميدان، وخاصة في غزة، وأعاد للجماهير دورها المحوري في الساحات، وإن كان هذا الدور يشهد صعودا وهبوطا بحسب الظروف.

أما ما يتعلق بالأنظمة، فهو جزء لا يتجزأ من المشروع الوطني الفلسطيني، الذي يحملها مسؤولياتها التاريخية تجاه فلسطين وشعبها، ويطالبها بالوقوف صفا واحدا إلى جانب هذا المشروع التحرري.

وفيما يخص المحدد الأول، والمقصود به توافر الإرادة لدى أصحاب مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، فإنه يمكن القول إن المقاومة، حتى الآن، قد نجحت بفضل الله في تعطيل هذا المسار وإعاقة تقدمه.

خلاصة

إن فكرة هزيمة الاحتلال ليست مجرد حلم، بل هي هدف قابل للتحقيق، وقريب المنال، خاصة بعد ما أظهرته عملية طوفان الأقصى من ضعف ووهن في بنيان الاحتلال. وسنن الله في التغيير ماضية وقوية.. وأحد أخطر سننه في هذه المواجهة: "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".

إن فكرة إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، من خلال تفعيل دور منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى قاعدة تحرير كامل التراب الفلسطيني، هي الرد الأقوى والأكثر فاعلية على حجم التضليل والموت الذي ينشره الغرب ومشروعه الصهيوني في فلسطين.

من أجل مستقبل مشرق للأجيال القادمة، لا بد من العمل الجاد والمثابرة الدؤوبة، حتى لو لم نكن شهودا على التغيير والنصر.. فيكفينا فخرا وشرفا، أننا كنا من أبناء غزة الأبية.. ولا نزال متمسكين بجمرة الدين، وجمرة الوطن الغالي.. حتى نلقى الله، ونحن على هذا العهد.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة